إذاًِ وصلنا الى أوكلاند، كانت مدينة رائعة تحيط بها المياه من كل جانب ويفصل الشمال عن الجنوب جسرا قد يستغرقك دقائق لتقطعه او ساعات، ولكنك لن تنزعج ابدا لان منظر البحر والاشجار ومستنقعات المانغروف التي زرعت لحماية البيئة البحرية سيأخذك في تأمل رائع، كما ستشاهد أناس كثيرون يركبون القوارب او الكاياك ومن حولهم صيادو السمك والسباحين الذين يغامرون بقطع المسافة بين الشمال والجنوب. وبالطبع ستستمتع بالاستماع الى الراديو والبرامج الجميلة واجملها لدي تلك التي يتكلم الناس فيها عن مشاكلهم مع صاحب البرنامج. في وقتها لم يكن هناك تليفون حافل بالبرامج والسنابجات او الانستغرام لتركز عليه بدلا من ملاحظة الطبيعة والتي كانت خلابة ومدعاة للتأمل والحب.
كان الناس الذين تعرفت عليهم يضحكون مني ويقولون (باللهجة العراقية) هاي شنو رجل بالمطار ورجل بالجانعة!! وهذا ما حصل اذ إنني سجلت للدراسة قبل ان نفكر بالحصول على بيت لنسكن فيه. كانت المنطقة رائعة وعندما تجد لك مكانا لتركن به سيارتك ترى اكبر حديقة في منتصف اوكلاند وتحيطها الاشجار من كل جانب، ولكن حذار حذار من التلة فصعودها لتصل الى الجامعة سوف يقطع نفسك من شدة الارتفاع، وهكذا مضت الايام الاولى.
ثم رويدا رويدا تعرفنا على العائلات العراقية والعربية التي استقرت في أوكلاند واتخذت لنفسها بيوتا جميلة ترى من خلال نوافذها الاشجار والتلال او الممرات المائية. هناك تعلمت منهم عمل بعض الطبخات العراقية اللذيذة مثل الدليمية والكبة والكباب والتشريب ومحروق اصبعه وغيرها الكثير.
لا بد ان اقول هنا بأننا كنا نعرف بعض العوائل قبل هجرتنا من دبي وتعرفنا على آخرين من خلالهم أو من الجامعة كذلك التحق الاولاد والبنات في المدارس والجامعة وكنا احيانا نذهب معا لنتشارك في السيارة. ومن الناس الذين تعرفت عليهم هناك الحبيبة سلوى (الله يرحمها ويسكنها فسيح جناته) أتذكر بأننا كن نستغل عطلة نهاية الاسبوع بأخذ الاطفال الى الحدائق المنتشرة في أنحاء أوكلاند أو الى البحر او نسوق بالسيارة لنذهب الى مدن وقرى قريبة لنستمتع بالمناظر الطبيعية ونتعرف على فعاليات الشعب الماوري كما تعرفنا على الجيران الكيويين والعرب.
وفي كل نهاية اسبوع تتصل سلوى وتسأل السؤال المعهود ” شنو ماكو سفرة؟” وأقول يلا نروح هذا المكان او ذاك ونتفق مع بقية العوائل ونستمتع بيومنا ونأكل جميعا من البرياني الذي كنت أعده مخصوصا للرحلة “السفرة” والطعام او الكعك الذي كانت تعده النساء ونرجع آخر النهار فرحين.
ثم بدأنا أنا وهي بالاستمتاع بالمشي (للرياضة طبعا) ولكن بعد كل نصف ساعة نرى مقهى فنجلس فيه لنشرب قهوتنا وندخن سجائرنا، ثم نكمل برنامجنا الرياضي،
ولا أخفي عليكم بأن مقلوبة الباذنجان التي كانت تعدها سلوى كانت من اجمل الطبخات العراقية التي أكلتها هناك. وكنا نطلب اللحوم والدجاج من شركة متخصصة بذبح اللحوم الاسلامية، وكذلك الدجاج. اذكر ذات مرة بأنني طلبت لنا ولعدة عوائل كمية من اللحوم، وعندما ذهب زوجي لاستلامها سأله المسئول ان كان سيرسل هذه الشحنة الى الخارج (هههه) اذ لم يتوقع ان عدة عائلات ستأكل هذا اللحم كله. انه لا يعرف بأننا مشهورون بأكل اللحوم والدجاج. تخيلوا معي: لم نكن نرى الاسماك في أوكلاند!! وبعدها عرفنا انه توجد سوق خاصة للاسماك وما علينا الا الذهاب لها. ولكن الاسعار كانت مرتفعة جداً.
لا اعرف إذا كنتم تدركون طريقة الاجازات في نيوزيلاندا (وربما استراليا ولكنني لست متأكدة من ذلك) اذ كان الفصل الدراسي عبارة عن عشر أسابيع وبعدها يعطى الاطفال اسبوعين إجازة ولذا قررنا ان نرى جميع المناطق في نيوزيلاندة . بدأنا من اوكلاند وذهبنا شمالا. وكنا نسوق ونتوقف للراحة ثم نسوق ونشاهد ما يعجبنا وننزل في أحد الموتيلات ونستمنع إما بلعب الورق او قول القصص للاطفال وهكذا رأينا فنغاراي، وراسل، وبي أوف ايلاندز والمدينة الشهيرة وايتانغي (التي وقعت فيها العاهدة بين الشعب الماوري والكابتن ويليام هوبسون)ووصلنا الى كيب ريانغا وهي آخر نقطة في الجزيرة ، الشمالية من الشمال، وهناك ترى الاية العظيمة “مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، فبأي آلاد ربكما تكذبان” ولشدة عجبنا اننا رأينا تلة رملية وسط منطقة خضراء رائعة وكان الاطفال يستخدمونها للتزحلق وهكذا اتممنا مشرع مدن شمال اوكلاند، في السنة الاولى،
وبدأت السنة الثانية وهكذا كنا ندرس وندرّس ونذهب للرحلات ونستمتع بأوقاتنا ولم يكن لدينا هما سوى البحث عن المدن التي سنذهب اليها بعد العشر أسابيع من دراسة الاطفال، فررنا بهاميلتون وكامبريدج، روتوروا، ونيبير،وهاستينغ، وتاورونكا وغيرها من المدن التي تحد شرق الجزيرة الشمالية وبعدها ذهبنا الى جبال رويبيهوا للتزحلق. ولكن توجد مدينة حدثت لنا فيها حادثة لا بد من ذكرها. اخترنا ان تقيم في موتيل في مدينة أوبوتيكي وبعدما استلمنا الغرف في الموتيل الجديد والجميل ركبنا السيارات لنرى ما يوجد في المدينة ويا للعجب فقد استغرقنا مدة طولها ثلاث دقائق لنرى المدينة كلها ولكننا لم نيأس. رجعنا الى الفندق وبدزنا بالتحضير للعشاء وتجمع الاطفال في مكان بينما الكبار مستمرين بالطبخ. ذهبت وقتها لاستفسر من اصحاب الموتيل عن الفعاليات الموجودة في المدينة (القرية في الحقيقة) فقالت لي صاحبة الفندق ان المدينة تعتبر مسكن لملاك المزارع ولا يوجد بها ما يستمتع به الزوار، ولكن أخاها يملك مزرعة ابقار ستسأله إذا كان بوسعنا التعرف على مزارع الابقار في نيوزيلاندة ولكنه الان في اجتماع في نادي الروتارين وقررت ان تخبرنا بالرد مساءٍ، فأسرعت الى العوائل لاخبرهم بحديثي مع صاحبة الموتيل وفرح الاطفال. والحمدلله ذهبنا في اليوم الثاني الى المزرعة واستمتع الاطفال بمشاهدة الابقار وكيف يتم حلبها وايضا رأوا طريقة التزاوج واصلاح الجرارات وغيرها من الاعمال في مزارع الابقار. وأخيرا اخبرنا صاحب المزرعة بأن لديه مزرعة فواكه الكيوي والافوكادوا وربما سيفرح الاطفال برؤيتها وقطع ما تبقى من الفاكهة فيها لأن نهاية الموسم قد قربت. ولم نكن نعلم بأن فاكهة الكيوي لا تؤكل بعد القطع مباشرة ولكن اطفالنا كانوا يقطعون ويأكلون وبعضهم احضر اكياسا ليملئها بالفاكهة ، وهكذا استمتعنا جداٍ وركبنا السيارات ولكننا احببنا ان نتوقف في تاورانغا مرة اخرى لتناول الغداء وشرب القهوة قبل الرجوع الى اوكلاند. وهناك التقينا مرة أخرى بأصحاب الموتيل اذ كانوا يتناولون قهوتهم مع اصدقاء لهم، وكانوا يتضاحكون فسألتهم عما يضحكهم فقالوا “إننا نضحك على الاولاد اللذين أكلوا فاكهة الكيوي قبل نضجها. قلت لها اننا اتينا من بلد لا يزرع فيه الا اللوز والبمبر وفاكهة الكيوي لا تختلف عن ذلك في المذاق. ولكنها كانت نهاية ممتعة لرحلة جميلة.
بعد رجوعنا من نيوزيلاندة استمرت علاقتي مع سلوى وذهبنا معا الى تركيا واشتريت بيتا قريبا من بيتها وكنا نلتقي تقريبا كل يوم قبل الذهاب الى اعمالنا. وحضرت اعراس بناتها كما حضرت هي اعراس اولادي ولكنها بدأت تحس بالمرض في آخر عرس (زواج ابنتي) اذ كانت تستفرغ بطريقة غريبة، وبعدها بعام فارقتنا، وأذكر انني زرتها في ميلان ولم يعجبني ما رأيته وجائني إحساسبأنني لن أراها بعد ذلك.
كتبت هذه الرسالة لصديقتي العزيزة سلوى اذ ستكمل اربع سنوات منذ فارقتنا، إنها من أهل الجنة ان شاء الله.
اللهم ارحمها واحسن اليها وسكنها فسيح جناتك.